الجمعة، 29 مارس 2013

أزمة منهج / أحمد الرواس


 عندما تختل الموازين تضيع العقول            لعل من أكثر العنت الذي يواجه الدعاة للحق و الحقيقة افتقار كثير من  الناس الذين يدعونهم  إلى المنهج المنضبط الذي على هداه يتبينون الحق من الباطل و الغث من السمين و الحقيقي من المزور، و الصدق من الكذب ….و القائمة طويلة…

فلا يمكن أن تقوم لأي نقاش قائمة ، و لا لأية دعوة نازلة إذا لم تكن مستندة إلى منهجية منضبطة و منطق متسق، و كلما فقدت المنهجية و غاب المنطق السليم كلما لج الناس في ظلمات التخبط العقلي و تاهوا في بيداء شبهات  الفكر  المادي. و الذي يسعى في الحياة بلا منهجية، ويدلف باب النقاش و المناظرات بلا مرجعية سليمة هو كمن يتجول في مدينة كبرى على غير هدى ،لا يملك تصميما و لا خارطة و هو في نفس الوقت يطمع أن يسلك أقصر الطرق للعناوين التي ينشدها.!! أو كركاب سفينة ألقت بسفينتهم الرياح في وسط يم لا يبدو له ساحل و لا يصحو  له جو و ليست لديهم بوصلة ولا ربان، و هم مع ذلك يرجون الوصول إلى مرفإهم المنشود، فأنى لهم ذلك؟
و إنني لأقول بكل ثقة أنه لم تنجب أمة من الأمم من علماء المنهج مثلما أنجبت الأمة المسلمة التي برع فيها علماء الدين و الشريعة بالخصوص في وضع قواعد صارمة تضبط  فهم الشريعة و مقاصدها، طبقا للمنهج الرباني الذي استنبط بالكامل من القرآن و قواعده العامة سواء فيما يخص الجانب العقدي التصوري أو الجانب التشريعي الإجرائي أو الجانب المنهجي النظري، و كل القواعد الثمينة التي استنبطوها و وضعوها معالم مضيئة في سبيل السالكين لدرب الحقيقة قد استقرئت من الأسس العامة المبثوثة في القرآن و صحيح السنة المطهرة، و المنسجمة تماما مع الفطرة الإنسانية السليمة.
فمما لا يرتاب فيه سويّ’’ أن القرآن الكريم جاء بقواعد وأسس تمثل المنهج الشامل الذي يجب على البشرية سلوكة إن كانت تطمح إلى الوصول إلى بر الأمان من تيه الضلال المخيم على من لا يهتدون في الحياة بهدي الوحي الرباني. تلك القواعد العامة التي تنسجم تمام الانسجام مع الفطرة الإنسانية السليمة، - فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم-
ما هي المشكلة الآن؟
مرت فترة طويلة من الزمان استمرت أكثر من 8 قرون، كانت الأمة الإسلامية ملتزمة في العموم بهذه المنهجية في الجانب العقدي و السلوكي فأثمرت تقدّ’ما و رقيّا مطبوعا بسمة هذه المنهجية المنسجمة تماما مع الفطرة السليمة المتوازنة ،و قد عمّ  مختلف الأصعدة، و رأينا كيف تحولت دفة القيادة الحضارية من بلاد الرومان إلى بلاد العرب و المسلمين، و بالرغم من تخلل فترات الضعف و الشرود عبر التاريخ الإسلامي إلا أن الأمة سرعان ما كانت ترجع إلى تبوإ مكانتها الحضارية الريادية، و ذلك في جزء كبير منه يرجع إلى وضوح المنهج لديها، و سيادة منطقه السليم و المتكامل. و فترات ضعف المسلمين و نجاح الأعداء الخارجيين في اختراقها و انتهاك حرماتها كانت دائما تتزامن مع سريان ضعف عام في وضوح هذا المنهج في ربوع بلاد المسلمين، و مخالطة شوائب فكرية دخيلة عليه. فمثلا تميزت  فترة غزو  المغول التتار و سقوط بغداد 656ه في القرن السابع الهجري الثالث عشر الميلادي بضعف فكري عام لدى عامة المسلمين،و ركونهم إلى الفكر الخرافي و القدري و الغلو الصوفي، و انتشار التشيع الرافضي المغالي  و سيادة الفكر الباطني و الفكر العجائبي الموغل في الخرافة ، و تعلق قطاعات واسعة من المسلين بالفكر الخرافي  و التصوف الإشراقي ،و غني عن كل باحث أن افتتان الناس بمثل تلك الاتجاهات المميعة المنهج، كان على حساب وضوح الرؤيا المنهجية لديها، و تهاونها في الأخذ بصرامة المنهج الإسلامي المحفز نحو العمل و البذل،و الارتباط بالفكر الذي تحته عمل، و الداعي إلى الإيجابية و تحمل المسؤولية.إلا أن الأمة سرعان ما كانت تلم شعثها و تستدرك أمرها و تلتف حول علمائها الربّانيين المصلحين، و إذا بها ترجع بسرعة إلى مكانتها، و هنا يتمثل أمامنا حديث نبوي صحيح عميق المعنى في دلالته الحضارية و الذي يقول:  إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها.كما في صحيح مسلم.
و قد كان لكل فترة علماؤها المجتهدون و المجددون، و يتفق كل الباحثين الجادّين أن الفضل في نهضة الأمة بعد كبوتها الكبرى بسقوط بغداد، أو بعد الاحتلال الصليبي   يرجع إلى ثلة من العلماء المنهجيين المجددين يتربع على عرشهم العز بن عبد السلام و شيخ الإسلام بن تيمية الذي كان بمثابة أمة وحده فقد شمّرعلى ساعدي الجد و تهيأ لخوض حروب ضروسة على مختلف الجبهات، ففي الوقت الذي كان يمتشق سلاحه و يركب فرسه في النفير العام ضد فلول التتار كان يكتب المؤلفات في مقاومة الفكر العدمي و العبثي و الخرافي، و محاربة الزندقة، و كان يهيب بالمسلمين التشبث بالأصول و عدم التفريط بها، و نفس الشيء يقال عن علاّمة الشام و مصر العز بن عبد السلام الذي كانت هيبته تملأ الآفاق، و كان الأمراء يهابونه و يسعون إلى تقريبه لكنه لم يكن هو ينشد غير عزة المسلمين و سيادة العدالة في ربوعهم،و لما عقد الملك الصالح صلحا مع الصليبيّين غادر العز بن عبد السلام إلى مصر مغاضبا، فازدادت نقمة أهل الشام على الملك، فأرسل أعوانه يسترضيه و يتلطف في إعادته لدمشق و قال له المبعوث من أعوان السلطان: 
ما نريد منك شيئاً إلا أن تنكسر للسلطان وتقبّل يده لا غير!. فقال له الشيخ بعزة وإباء العالم المسلم: »يا مسكين، ما أرضاه يقبّل يدي فضلاً أن أقبّل يده! يا قوم، أنتم في واد ونحن في واد، والحمد لله الذي عافانا مما ابتلاكم«
 إن من شأن المنهج الذي يرتّب الأمور حسب أهميتها بالمقارنة مع غيرها، أو حسب خطورتها و ضررها،أن تدفع بالفرد الملتزم أو المتشبع بها إلى بناء تصور تحكمه الأولويات، فتأخذ في فعله الصدارة. بينما الفرعيات، أو الأقل أهمية تأخذ تلقائيا مواقع متأخرة في سلم أولوياته.
و أبرز عالم أبدع في بناء الفكر المنهجي هو الإمام الشافعي الذي إليهيعود الفضل في بناء أهم علم نشأ في رحاب الإسلام ألا و هو علم أصول الفقه، فقد جاء كتاب -الرسالة- للشافعي فريدا ووحيدا في بابه، و هو حجر الأساس لكل الدراسات الأصولية التي تطورت ضمن المذاهب الإسلامية الأربعة المعروفة حتى صار علم أصول الفقه من أكثر العلوم إتقانا و صوابا.و هذا العلم لا يقتصر أثره على فهم الشريعة بل هو يضع الموازين الدقيقة و الحدود العلمية الصارمة لأي خطاب و أي نص علمي مسموع أومكتوب،و لولا أن من الله على أمة الإسلام بأولئك الجهابذة الموسوعيين الذين صرفوا أعمارهم في سبيل تجلية هذا العلم و إتقانه، لكان أمر الفقه الإسلامي وأحكام الشريعة على غير هذا  الوضوح و الصرامة العلمية التي هو عليها اليوم.
و إذا أضفنا إلى هذا العلم المنهجي علوم الحديث من الجرح و االتعديل و علم الرواية و الدراية التي نبغ فيها المسلمون و تفردوا على كل الدنيا به و وصلوا فيه حد الإعجاز، أيقنا أن كل ذلك إنما يمثل تجليا للعناية الربانية بهذا الدين الذي تكفل الله بحفظ كتابه، و لطفه الخفي بهذه الأمة الخاتمة و الشاهدة على الأمم،
أين نحن اليوم من تلك الصرامة العلمية؟
للأسف فإن الأمة الإسلامية اليوم ما تزال تعاني من الكبوة التاريخية التي عصفت بها إلى وهاد الانحطاط و التقهقر الحضاري، و الذي بدأت بوادره الأولى بعد سقوط بغداد656 و ضياع الأندلس قرونا بعد ذلك 897هجرية و انتهاء بسقوط دولة الخلافة في إستانبول سنة 1342ه/ 1924 ميلادي، و جاء انقضاض الاستعمار على العالم الإسلامي فزاد الطين بلّة. و ما خرج إلا بعد أن عاث في أرض المسلمين فسادا و تزويرا،و تشويها، و من بين الميادين التي حاول الاستعمار بمختلف راياته أن يمسخها هي الهوية الإسلامية للشعوب التي استعمرها، فقد أولى للتعليم الأهمية القصوى، و استهدف المناهج الإسلامية و استبدلها بمناهجه الأوروبية، فبرز بين المسلمين من أبنائهم من تنكّب لتلك المناهج، و من يتهكم منها،و نفخ الغرب في شهرة أولئك المتهكمين و بوأهم بإعلامه مكانة بارزة في مجتمعاتهم، و هو  يعلي في نفس الآن من شأن المناهج الأوروبية الحديثة و يبسط لها الهيمنة على غيرها مستخدما بيادقه من السياسيين المتحكمين في مصائر المسلمين،غير أن هذه المناهج الأوروبية بالرغم من إجابية بعض جوانبها العلمية فهي تخضع بإفراط لأهواء أصحابها، و أوهام واضعيها، و هي غير مقيدة بأية قيم عليا، و غير معنية بأية حقيقة مطلقة.  فلا شيء مقدّس عند غالبية علماء الغرب الذين ينطلقون في غالبيتهم القصوى من نظرة إلحادية للعالم من حولهم، و قد ظهرت فلسفات عديدة متناقضة في أوروبا تختلف باختلاف ميولات أصحابها، وباختلاف تخصصاتهم، فهناك من حاول تطبيق المنهج العلمي التطبيقي المطبق في الميادين الفزيائية على الإنسان في غفلة و نكران تامين للجانب الروحي فيه، و هناك من تأثر بنظريات طائشة في علم النفس فتعامل مع الإنسان و عوالمه الفريدة كما لو كان كتلة مشبوهة من الاستعدادات الإجرامية! فهذا فرويد خلص من كل دراسته إلى أن الإنسان لا تحكمه سوى غرائزه الجنسية حتى و هو طفل رضيع’’، إذ لم يجد تفسيرا لتعلق الرضيع بثدي أمه سوى الشهوة الجنسية! و لم يبرئ حتى الرّ’ضّع من الصراعات الجنسية، فمسخ براءتهم و صوّرهم محكومين بشهوانيتهم الجنسية و العدوانية الحيوانية!
و قد تأثر بهذه الأفكار كثير من أبناء المسلمين فأمسوا يقدسون كل وارد من الغرب تحت يافطة العلم مهما بلغ تهافته و بان عواره، و على سبيل المثال فإن بعض هؤلاء المستلبين حضاريا يتحدثون عن علم - الأنثروبلوجيا كما لو كان علم الحقائق الأزلية! مع أن كل من قرأ تاريخ هذا العلم و تتبع مسيرته منذ القرن الثامن عشر، يوقن أنه من أكثر فنون العلم عبثا ، و أكثفها تناقضات وتهافتا!و يكفي أن نعلم أنه ومنذ ظهور بوادره الأولى على يد الأنثروبلوجيين التطوريين و هو يتعرض للتسفيه حتى على يد المشتغلين به ، فكل جيل من الأنثربلوجيين يلغي و يسخر ممن سبقه. و ظهرت في ميدان الأدب و العلوم الإنسانية الحديثة نظريات تتوالد كالفطر، لكنها لا تعمر إلا كما يعمر الفطر، فسرعان ما تعقبها نظريات أخرى جديدة تصبح القديمة منها في حكم البالية التي لا تجد من يلتفت إليها إلا الموثقون من المؤرخين!
فأغلب هذه المدارس و النظريات لا يكتب لها أن تعمر أكثر من جيل واحد، فمنذ  أطلت نظرية الأثربلوجيا مع التطوريين  في القرن 18، ثم التاريخيين، ثم البنّائيين الوظيفيين  في القرن 20 ، ثم نظرية التفكيكية /التقويضية على يد الشاذ جاك دريدا ،و هذه النظريات تتصارع فيما بينها، و يسفّه بعضها أحلام بعض. و لعلنا لن نلبث إلا قليلا حتى تظهر للوجود مدارس أخرى تفنّد كل زعم المدرسة البنيوية  و التفكيكية و كل المدارس السابقة، و تحاول أن تقنع المتسوقين  بجدارة نظريتها هي الأخرى .فهناك بالفعل نظريات أخرى تسخر من التفكيكية/ التقويضية وتعتبرها مسخرة.
ومع ذلك فإن  كثيرا من أبناء المسلمين خصوصا منهم من لا ناقة له و لا جمل في العلوم الإسلامية أمسوا ضحية لهذه الفوضى الفكرية المخيمة على الأجواء.و أكثر مظاهر هذه الفوضى الفكرية شيوع ما أسميه تواضعا بالنسبية الرعناء، فقد انتقلت النظرية النسبية من ميدان الفزياء و علوم الفضاء التي برعت فيه  إلى العلوم الإنسانية بغير إذن من ألبرت أينشتاين!!! و بتّ تجد صعوبة في إقناع بعض الناس، أو حتى إخضاع فكرهم النزق إلى أية قواعد منطقية، أو أرضية فكرية صلبة، و يخيل للمرء و هو يحاور بعضهم كما لو كانوا يتحركون بعجلات فوق أرضية مهتزة زلقة تشعرك بالدوّار و أنت تساير هذيانهم محاولا تثبيت أفكارهم على أرضية مشتركة،و تضبطهم إلى كلمة سواء بينك و بينهم.
و إذا كانت علة هذه الفئة من ضحايا بعض الثقافات الغربية الخادعة هي انخداعهم بعلمية تلك المناهج الغربية و تفوقها على المناهج الفكرية للثقافة الإسلامية الحقة، فإن هناك فئة أخرى بالرغم من كونها أقلية تعيش بين ظهراني المسلمين علتها التعصب الطائفي المقيت، و هذه الفئة يمثلها متعصبوا الشيعة الإثناعشرية بالخصوص و من أردوه بدعواتهم الهدامة، هذه الفئة تنطلق أساسا من أرضية تكفير كل ما عداهم من المسلمين الذين يسمونهم بالعامة! و تنطلق من سوء الظن بكل المسلمين  و كل رموزهم النيرين من صحابة الرسول و أئمة المذاهب و العلماء، و من تجربتي الطويلة مع هذه الفئة المتعصبة فإنني أوقن أنها من أكثر فرق الأرض انغماسا في تيه نظرية المؤامرة. إنهم يتصورون كل شيء في الكون ينبئ عن مؤامرة، و كل تاريخ المسلمين هو مؤامرة! و القرآن الكريم الذي ببين أيدي المسلمين اليوم هو نتاج مؤامرة التحريف! و أحاديث البخاري و مسلم و الكتب الست هي نتاج مؤامرة، و السيرة النبوية العطرة هي مؤامرة. و هكذا فيستحيل أن تجد أرضية مشتركة مع متعصبي الرافضة من نحلة الإثناعشرية.
كل هذه المظاهر المدمرة جاءت في جزء كبير منها نتيجة لجهل الناس بالمناهج الإسلامية التي تضبط الفهم، وترشد الرأي و تضيء الطريق أمام السالكين، فأية آفة أشد فتكا بالأفكار من آفة فقدان المنهاج الفكري السوي؟

في 12 يوليو 2011



1 التعليقات: