ربما يمكن أن أقول بكل اطمئنان أنه لم يرد في يوم من أيام الله من الفضل ما ورد في يوم الجمعة، حتى إنه قد اختلف في أيهما أفضل يوم عرفة أم يوم الجمعة و ذهب قول لأتباع الشافعي إلى أن يوم الجمعة أفضل من يوم عرفة، و قد ورد عن نبينا ص أحاديث في فضل هذا اليوم منها قوله:
يوم الجمعة سيد الأيام و أعظمها، و أعظم عند الله من يوم الفطر، و يوم الضحى- ذكره البيهقي في فضائل الأوقات من حديث أبي لبانة بن عبد المنذر.
و قد روى الترمذي في سننه قول الرسول ص: خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، و قال : حديث حسن صحيح.
و قد اهتم علماء الإسلام بالعناية بالتأليف في مزايا يوم الجمعة حتى إن الإمام السيوطي قد ألف كتابا أسماه: خصوصيات يوم الجمعة، عد فيها مائة خصيصة و مزية لهذا اليوم العظيم.كما أن ابن القيم كتب في 30 خصيصة لليوم الجمعة.
و غني عن البيان أن اهتمام الإسلام بيوم الجمعة يشي بحرصه الكبير على اجتماع المسلمين و توحيد كلمتهم، و رص صفوفهم، و إشعارهم بحتمية الوحدة والاعتصام بحبل الله جميعا، و المحافظة على المظهر القوي للأمة المتمثل في وحدة صفها و القيام بشؤون بعضها، و لذلك فقد وردت أحاديث نبوية في التحذير من التهاون في حضورها، أو الغفلة عنها، منها حديث عبد الله بن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما أنهما سمعا رسول الله يقول : لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين)) رواه مسلم. وعن أبي الجعد الضمري عن النبي قال: ((من ترك ثلاث جمع متهاونا بها طبع الله على قلبه)) رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن حبان بإسناد حسن. وعن يحي بن أسعد بن زراره قال: قال رسول الله : ((من سمع النداء يوم الجمعة فلم يأتها، ثم سمعه فلم يأتها، ثم سمعه فلم يأتها طبع الله على قلبه، وجعل قلبه قلب منافق)) رواه البيهقي في الشعب بإسناد حسن.
و الفضل الكبير في استمرار وجود كيان هذه الأمة يرجع في جانب كبير منه إلى أهمية هذا اليوم في حياة كل مسلم و مسلمة،فهو يمثل لقاء أسبوعيا،على مستوى كل الأمة، تستمع فيه إلى الموعظة الدينية، و تتزود فيه بالتعاليم الإسلامية السمحة التي توجه سيرها في دروب الحياة، المختلفة،و تضع أمامها معالم الهداية في كل مجالات الحياة الشاملة بشمولية الإسلام،و عبر تاريخ الإسلام ظل يوم الجمعة عيدا أسبوعيا يشعر فيه المسلمون بقوة وحدتهم و بركة تراصهم و بظلال الحرية التي تضمهم في فيئها. و لذلك فقد كان يوم الجمعة عسيرا على كل طاغية، و لولا فرضيته و أهميته الكبرى في الإسلام لاستطاع الطغاة أن يلغوه أو يمسخوه لما يشكله من خطر على وجودهم، و دولهم المستبدة.و لكنهم إذ لم يستطيعوا أن يلغوه فقد استطاع بعضهم أن يتدخل في خصيصة من خصيصاته و هي الخطبة، فأخضعها للمراقبة و المخابرة و لذلك يندر أن تجد بلدا عربيا لا تخضع فيه الخطب المنبرية ليوم الجمعة لفرع من فروع المخابرات، و استطاع البعض الآخر أن يضغط على الخطباء فيبتعدون عن القضايا الأساسية و صور الظلم و الأثرة التي يتعرض لها المواطن في مثل هذه الدول المستبدة، و النأي بالناس عن جوهر مشاكلهم كأمة و التحليق بهم في عوالم الفضائل الأخلاقية بعيدا عن مكمن الداء الذي يرزح الكل تحته و هو الاستبداد و الطغيان و مصادرة الحريات، و التضييق في الأرزاق، تحت مسميات شتى و تعلات تترى مثل قوانين الطوارئ، و حالة الاستنفار، و المؤامرات الخارجية، و المكائد الداخلية، و غيرها.
و اليوم و بعد أن غيبت أغلب الأنظمة المستبدة شعوبها عن ركب الحضارة،و ارتكست بهم إلى حضيض الدول المتخلفة برغم ثرواتها الهائلة و مواقعها الاستراتيجية، و ثروتها من الشباب، فقد استيقظ العرب المسلمون على واقع مرير من التبعية السياسية، و التخلف الحضاري المعيب،و التأخر العلمي المريع، و التقهقر إلى الوراء نحو الصفوف الأخيرة في سلم الدول و في مصاف بعض الدول الإفريقية غير ذات الشأن في العالم، اليوم يستفيق المسلم العربي على هذا الواقع المزري الذي طال أمده، فقرر أن يغير من واقعه بعد أن يئس كما يئس أهل القبور من الوعود الكاذبة و الشعارات المزيفة للأنظمة المستبدة، فكان يوم الجمعة هو أفضل وسيلة و أعظم فرصة للإجتماع و النهوض شعبيا من أجل تغيير هذاالواقع المزري،-لإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم- خصوصا وأن أغلب هذه الأنظمة لا تسمح بحرية التجمع، و ترى في أي تجمع شعبي خطرا يهدد كيانها و يأتي على أسس الفساد الذي تقوم عليها أحزابها الحاكمة.
ففي تونس حيث بدأت الشرارة الأولى على غير موعد، و حيث كان الناس قد استيأسوا من القدرة على مقاومة أحد أكبر أجهزة القمع في العالم، كان ليوم الجمعة الفضل الأكبر، فمن المساجد انطلقت جموع المصلين و التحم الناس بعضهم مع بعض و إذا الشوارع ملآ بالمحتجين، و رجع للخطباء دورهم في غمرة حماسة الأمل من التغيير و الذي كان قد رحل عنهم دهرا طويلا في ظل القمع و القهر السياسي و الأمني للنظام البوليس لابن علي و زمرته و عائلته الفاسدة و المفسدة، و ما هي إلا أسابيع قليلة و إذا بتلك المسيرات المباركة المنطلقة من المساجد أيام الجمعة توتي أكلها، و تتوج بأكبر نصر على أشد الأنظمة طغيانا .
و في مصر كان الملايين من المصريين ينطلقون من المساجد يوم الجمعة و يملأون الساحات و الشوارع مطالبين برحيل الطاغية و من حوله من الطغاة، و كان الشعب المصري يضرب للطاغية موعدا بأيام الجمعة، فمن الجمعة المليونية إلى جمعة الصمود إلى جمعة التحدي إلى جمعة الرحيل. و يوم النصر الأكبر صلى الملايين في ميدان التحرير و الشوارع المحيطة بها يأمهم إمام واحد هو الشيخ الدكتور القرضاوي.
و نفس الشيء يقال عن ليبيا، واليمن.و اليوم كل العالم يرقب ما يجري في بلاد الشام العزيزة و يشهدون الجرائم الفظيعة التي يقوم بها النظام البعثي من سحقه للمتظاهرين السلميين بالدبابات و المدرعات، فجثث الشهداء ملقاة في شوارع درعا بعد أن اقتحمتها الدبابات و رآى الملاييين عبرالعالم جنود النظام الطائفي و هم يقتنصون الأبرياء بأسلحتهم كما لو كانوا في نزهة صيد بري، و رآى العالم جنود النظام و هم يقتحمون الميادين والأزقة و هم يمرون إلى جانب الجثث المرمية في الشوارع،فقد مات العشرات،و ما يزال أهل درعا تحت الحصار و من لم يقتل من أهلها يزج به في غياهب السجون، فالمعتقلون بالآلاف، و قد رآى العالم صنوف التعذيب الذي يتعرض إليه من يدخل إلى سجون نظام الأسد.
الكل في سوريا و خارجها – بوعي أو بغيره- يراهن على أيام الجمعة، فهذا اليوم الذي أكتب فيه هذه المقالة و عد الشعب السوري أن يجعل منه جمعة الغضب على الجرائم التي يرتكبها النظام في سوريا ضد المتظاهرين السلميين ، و ضد الحصار المميت الذي يضربه النظام على درعا و بنياس و غيرهما.
إن يوم الجمعة لهو أثقل يوم على الطغاة المستبدين،و لهو أثقل يوم على نظام الأسد و زبانيته، و لهو أثقل يوم على الحلفاء الاستراتيجيين لنظام القمع في سوريا مثل إيران و تابعه حزب الله، و هم يخشون أن ينهي هذا اليوم نظام حكم الطاغية النصيري الطائفي، و لذلك فهم يمدونه بالسلاح و المخابرات و كل أنواع الدعم المادي و المعنوي، فحكام سوريا يرون أن هذا اليوم- يوم الجمعة- قد طوح باثنين من الطغاة المشابهين بعيدا في عالم الذل و الخزي،إلى مزبلة التاريخ، و يرون أن إثنين آخرين في طريقهما إلى نفس المصير و هما القذافي المقذوف و علي صالح ، و يوشك أن يكون لهذا اليوم فضل تخليص الشعب السوري العظيم من طغيان حكم عائلة الأسد التي بغت في الأرض و أفسدت و عتت عتوا كبيرا.
لعله من الأجدر الآن أن تنضاف خصيصة أخرى من خصائص يوم الجمعة ذهل عنها السيوطي و ابن القيم و هي أنها يوم التحرر من الطغيان، فلا أعجب من شيء عجبي من من أي شعب يرضى بمنتهى الإذلال و العيش تحت نير الاستعباد و التسلط و الحزب الواحد، و عنده يوم الجمعة التي يسعى فيها الناس إلى ذكر الله الذي خلقهم أحرارا، و دعاهم إلى أن يحيوا أحرارا أو أن يموتوا شهداء أبرارا.
0 التعليقات:
إرسال تعليق