الكون يصدع بوجود الله
ربما عد هذا الموضوع موضوع البراهين على وجود الله من أسهل و أوضح المواضيع لمن تدبر برهة تدبر. نظرا لأن الوجود كله ناطق به ، و صادع بجلالته و كبريائه، و الكون كله تجلي لحكمته و إبداعه، فكيف يحتاج بعد كل هذا إلى دليل ، و قديما قيل: سلام على الدنيا إذا احتاج النهار إلى دليل.و مع وضوح الأدلة على وجوده سبحانه إلا أن عصرنا ما يزال يعج بالملاحدة و منكري وجوده سبحانه.! بل الغريب أن كثيرا من العلماء المشتغلين في ميادين العلوم البحتة في الغرب هم من الملاحدة المعروفين و المشهورين! و لذلك فما وجد من نعمة الإيمان فليحمد الله عليها.
و لئن حاولنا تتبع مرض الإلحاد في التاريخ لوجدناه في توازي مع دعوات الإيمان التي بعث بها الرسل و الأنبياء ، فإزاء كل نبي هناك مجموعة من الملحدين الذين يكفرون بكل ما جاءوا به. فالإلحاد هو السلاح الذي كان أعداء الأنبياء يشهرونه في وجه أنبيائهم و رسلهم، و الإلحاد كان يأخذ صورة التشبث بالأصنام في الغالب على اعتبار أنها هي التي تنفع و تضر و هي التي تدير الكون وما حوى، مع أنها صنع أيديهم!
و لكن ما هو الإلحاد؟ الذي سنركز عليه البحث ؟ إنه إنكار وجود الله، و القول بأن هذا العالم وجد عن غير تخطيط و لا سابق تدبير، و إنما هو وجد صدفة.
رغم تنفذ كثير من الملاحدة عبر التاريخ للمراكز المهمة في المجتمع و الدولة، إلا أن استطلاعات الرأي حاليا تظهر أن الغالبية من البشرية تؤمن بوجود إله خالق لهذا الكون، و إن اختلفت تصوراتها لهذا الإله و ما يشوب ذلك التصور من خرافة أو شرك.فقد أظهر استطلاع للرأي قام به مركز بيو للأبحاث بأمريكا Pew research centerأن 93% من الأمريكيين يعتقدون بوجود إله. بينما لا تتعدى هذه النسبة حوالي 33 في المئة بين العلماء؟!! و هذه هي الطامة في الغرب، فما سببها؟ بينما نسبة الإلحاد بين علماء العرب و المسلمين لا تكاد تجد لها نسبة في المئة، فهي دون 1% .و أغلب الملاحدة العرب أردت عقولهم شبهات فلسفية، و فذلكات لغوية استقوها من سطحيات بعض النظريات اللسانية، و أشباهها في العلوم الإنسانية.
ترجع القصة إلى طبيعة الدين المسيحي ، و ما اعتراه من تبديل و تحريف حتى غدا الإنجيل و التوراة كتابين يطفحان بالخرافات ، و الأساطير ، و الشرك المنافي أصلا للإيمان و العقل معا. فقد حول النصارى عيسى بن مريم من رسول إلى إله، وأنزلوا الإله من عليائه فقمصوه صورة إنسان، يقبض عليه، و يحاكم ، ثم يعذب و يصلب و يسفك دمه! و يرجع السبب أيضا إلى فترة سيطرة الكنيسة على مقاليد الأمور و تحالفها مع الملوك المستبدين لأوروبا و مع الإقطاعيين ملاك الأراضي.ثم سيطرتها على العقول و إخضاعها للحركة العلمية لمفاهيم قديمة و تصورات رثة احتضنتها عن الكون ، و ما حوى من كواكب، تعود إلى أساطير أرسطوا و أفلوطين. ثم قامت الكنيسة بقمع وحشي لكل من خالف تلك التصورات البدائية أو ناقض ما عليه البابا من تصورات، و كانت التهم بالزندقة و الكفر جاهزة تشهر في وجه كل العلماء المتطلعين إلى المعرفة خارج رحم الكنيسة ، و هكذا قامت بالتنكيل بالعلماء فحرقت بعضهم أحياء في الساحات العامة
يقول المؤرخ العلامة "سيديو": (لم يشهد المجتمع الإسلامي ما شهدته أوربة من تحجر العقل وشل التفكير، وجدب الروح، ومحاربة العلم والعلماء حيث يذكر التاريخ أن اثنين وثلاثين ألف عالم قد أحرقوا أحياء!
و كان كل عالم يحاول الخروج عن تقليد الكنيسة و نظرتها الأسطورية عن الكون يعذب ، و يقتل في الساحات العامة و أمام سب و شتم العامة الأوروبيين الجهلة ، كما فعل بجردانيو بورنيو الذي أحرق حيا في روما ، بعد أن أمر جلادوه بربط لسانه حتى لا يتفوه بشئء أمام العامة، و كان من بين ذنوبه التي لا تغتفر طعنه في ادعاء الكنيسة أن الأرض مركز للكون بدل الشمس!
و كذلك ما تعرض إليه جاليليوا الإيطالي من تضييق و وعيد عندما اكتشف برأي العين عبر مرصاده الفلكي الذي اخترعه، حقائق جديدة عن المجموعة الشمسية دفعته هو الآخر إلى الاعتقاد بأن الشمس هي مركز للكون و ليست الأرض ! و رغم أن ما اكتشفه لا يمثل شيئا كبيرا بالنسبة لحقائق هذا الكون العظيمة إلا أن حتى ذلك القدر الضئيل من المعرفة كان مجرما من لدن الكنيسة، واضطر جاليليوا أن ينافق الكنيسة و يرضخ لنظرتها!
في هذا الجو الضاغط القامع لحرية البحث و الخروج على المفاهيم البدائية المحنطة للكنيسة عن الكون كان علماء أوروبا يعيشون.. و ظل الحال هكذا إلى أن تهيأت الظروف للثورة على سلطة الكنيسة بعدما تفاقم أمرها وذلك بتحريض من علماء أوروبا فكانت الثورة الفرنسية التي قضت على سلطة الكنيسة و سلطة الملوك المتحالفين معها، وجاء عصر أسموه بعصر الأنوار…و كانت ثورة دموية بكل المقاييس حيث سفكت دماء كثيرة و علقت المشانق في كل بلدة و مدينة أوروبية ، و اشتهرت و صية فولتير التحريضية و السادية التي يقول فيها: : أشنقوا آخر إقطاعي بأمعاء آخر قس!!،
فبدأت أوروبا عهدها الجديد بطلاق بائن بينها و بين الكنيسة و مفاهيمها، ووضعت حدا ما بين العلم و الدين و حظرت على الدين الحياة العامة و قصرت دوره داخل الكنائس و الأديرة.و شعر العلماء بحرية البحث و التصريح بنتائج أبحاثهم في أجواء حرة لأول مرة بعد خروجهم من سجن القرون الوسطى المظلمة.
و هكذا استقر في وعي علماء الغرب منذ ذلك الحين أن الدين منافي للعلم بل و مضاد له، كما أن الكنيسة إن عادت و استولت على زمام الأمور فإنها لا بد أن تعمل على قمع العلماء! و هذه الحقيقة هي التي تفسر لنا انتشار الإلحاد في أوساط العلماء الطبيعيين ، ثم جاء من بعد تشالز داروين بنظرية النشوء و الارتقاء التي سطرها في كتابه : أصل الأنواع، فرآى فيه علماء الغرب القشة التي قصمت ظهر الكنيسة و إلى الأبد! مما يفسر اعتناق هذه النظرية من لدن كافة علماء الغرب تقريبا، و ما يزال كثير من العلماء حتى الآن متشبثين بها رغم ظهور أدلة علمية دامغة تفندها، و تظهر تهافتها، و تناقضاتها.أقواها الحقائق المذهلة التي كشف عنها الكشف التاريخي عن الجينوم البشري ، و كذلك كتاب: the Evolution a theory in crisis أي : النشوء و الارتقاء: نظرية في أزمة والذي كتبه العالم المخبري مايكل ديتون. فنظرية داروين كانت بمثابة دين بديل عن الكنيسة و عن المسيحية دخل فيه علماء الغرب أفواجا.و كأي معتقد من الصعب على الإنسان تركه ، خصوصا إذا اكتسب مع مرور الأيام شعبية و تقليدا بين العلماء ، و احتل جزءا هاما من قاموسهم المعرفي و اللغوي! و شكل مخيلة جماعية عامة، و هذا ما يفسر تشبث الغرب بهذه النظرية ومحاولة تطعيمها بعقاقير من شبهات علمية مجتزأة من هنا و هناك يحاولون بها أن يقيموا أودها كلما آلت إلى السقوط بفعل الحقائق العلمية الجديدة.
أما في العالم الإسلامي فإن الأمر كان مختلفا تماما عما شهدته أوروبا، فلم يكن هناك قمع لحرية البحث بل كان هناك تشجيع لها، و علماء المسلمين لم يتبنوا أيا من التصورات الأفلاطونية أو الأرسطية عن الكون حتى يقمعوا من يضادها، و لم يحرق عالم واحد حيا بسبب بحوثه العلمية ، أو آرائه الفزيائية أو الطبية. بالعكس في تلك الفترة من الزمان شهدت الحركة العلمية نشاطا و حيوية و تشجيعا، و الذين نالهم بعض التضايق كانوا زعماء الخرافة و مروجي الأساطير و التواكليو و الكسل بين الناس مثل الحلاج، و السهراوردي، أي أولئك الذين كانوا يشدون الناس إلى الاعلم! و من هنا يبدو شذوذ و جهل بعض المتطفلين عندنا ممن يسمي تلك الفترة بفترة العصور الوسطى أو عصور الظلام ! فلم يشهد تاريخ المسلمين مثل هذا العصر بذلك الوصف أبدا.و هذه المحاولة هي محض تقليد أعمى لأدبيات الغرب عن تاريخه.
فالعالم الغربي كلما التفت للدين يجد أمامه الدين المسيحي ، فإذا ما تصفح الكتاب المقدس يجد تناقضات بينة واضحة ، ورغم الجهد الجهيد الذي بذله القساوسة و الرهبان و القيمين على الكنيسة في إعطاء تفسيرات إشارية و مجازية لأغلب ما هو مسطر في كتابهم إلا أن هذه المحاولات لم تفلح في جذب العلماء نحو هذا الدين المحرف. كما أنهم كلما التفتوا إلى تاريخ الكنيسة هالهم ما ارتكبته من فظائع في حق إخوانهم العلماء ، فيتبرمون من الدين و ممن الكنيسة معا.
وأنا أجزم هنا- و بكل تجرد- أنه لو كان الدين الذي أمام علماء الغرب هو الإسلام و ليس المسيحية لكانت النتائج مختلفة تماما، و لكانت نسبة المومنين بين العلماء أضعاف أضعاف ما هي عليه اليوم. فلا تناقض إطلاقا ما بين صحيح العلم و صريح الإسلام. و لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا"
الملاحدة لا سند لهم
بعض الناس يظنون أن العلوم البحتة وحدها القادرة على إعطاء الأجوبة ووضع الحلول لكل شيء !و أنه لا حاجة إلى الدين في كل ذلك! و لكننا دعنا نختبر العلم في مسألة هي أولى المسائل التي تشغل و شغلت الإنسان منذ وجوده. و هي : من أين جاء هذا الكون؟ و لماذا جاء؟
في إحدى السنوات كنت أناقش أستاذ فزياء ألماني يتكلم الإنجليزية بطلاقة مما سهل مأمورية نقاشي المعمق معه.و أوصلنا الحديث المتشعب إلى مسألة نشأة هذا الكون. فسألته: إن كنت تنكر وجود الإله، فمن أوجد هذا الكون في نظرك؟ فقال : هذا الكون مصدره الانفجار العظيم الذي أثبت العلم أنه صحيح إلى حد بعيد، و ذلك بسبب التباعد المستمر بين مجراته ، و ملاحظة بقايا الإشعاعات الكونية المترسبة في أحفوراته.قلت له طيب ! ما ذا الكون قبل الانفجار ؟ أجاب إن علماء الفزياء و الفزياء النووية يقولون بأنه كان سحبا غازية مضغوطة تحولت إلى سديم…..و بفعل الضغط الهائل الذي لا يتصور في الإدراك و قع الانفجار العظيم قبل حوالي 16 مليار سنة و…و…الخ! قلت طيب من أين جاءت تلك السحب الغازية أصلا و عن أي شيء نتجت؟ فتوقف – وكنا نتمشى على شاطئ خال- و خط فوق الرمل المبلل بماء البحر خطا و قال لي : هذا حد العلم حتى الآن!! قلت له : هذا اعتراف منك بمحدودية العلم حتى في القضايا المادية المحسوسة ، فكيف يستطيع العلم البحت أن يجيب على أسئلة من قبل : لماذا أنشيء هذا الكون بهذه الدقة المعجزة ، و لأي غاية، و لماذا وجد الإنسان و هو يحمل بين جنباته كل هذا الزخم العاطفي و الروحي، و لأي غاية وجد؟ و كيف تبرر للصدفة التي هي مجرد كلام فارغ عبثي لا معنى له على الإطلاق أن توجد هذا الكون بهذه الدقة و هذا التوازن و الانسجام، و الدقة المتناهية في قوانينه الطبيعية التي تحكمه، أليس قول ذلك من قبيل الخرافة. فقال لي : من السهل على الإنسان أن يقول بوجود الله ، و لكن كيف يستطيع التدليل على و جوده و هو لا يراه و لا يحسه؟ ثم إنني أبادلك نفس السؤال الذي سألتني و هو : إذا كان الله هو الذي أوجد هذا الكون و ما فيه فأين هو الله و متى وجد؟ قلت هذه أسئلة مشروعة و هي تفتح أمامنا بابا واسعا للحوار الجاد! فقاطعني و هو يتبسم قائلا عجبا هل تنوي إجابتي علميا على هذه الأسئلة ،إنها لجرأة منك ! إننا في ألمانيا نسمع الكنيسة تقول آمن ثم فكر! و أن الإيمان أمر قلبي و روحي لا علاقة له بالحث العلمي .قلت له : الأمر مختلف هنا! قلت له: أما بشأن سؤالك أين الله ، فإن سؤالك في الأصل غلط في حق الإله! فقال في مزاح : ها قد أصبحنا نقترب من الكنيسة ! قلت : على رسلك فإننا نتمشى في حقل أشواك معرفي. قلت له : إننا إذ نقول الإله الخالق لكل شيء نعني بذلك كل الوجود وما فيه، بما في ذلك الزمان و المكان، ثم سألته هل ينفصل الزمان عن المكان؟ قال إن الزمان حسب النظرية النسبية لإينشتاين الفزيائي الألماني المشهور هو نسبي إلى أبعد الحدود، أما هل ينفصل الزمان عن المكان فأنا لا أتصور ذلك فلا يمكن فهم الزمان و إيجاد معناه إلا في إطار المكان و أبعاده! فالزمان ناتج عن المكان و تتحكم في معاييره الكتلة. و بسبب ذلك يختلف الزمان باختلاف الكواكب و كتلها . قلت له طيب فالذي أوجد هذا الكون بمكانه وزمانه الذي لا ينفصل عنه لا بد أن يكون منزه عنهما و مباين لطبيعتهما ! فلا يعقل أن يكون مبدع المكان و الزمان يحكمه الزمان و المكان و هما مجرد بعض من خلقه، فقال : هل تريد أن تقول لي بأن الله خارج الزمان و المكان! قلت إنه ليس مفتقر لهما و هو قد خلقهما.فقال : فكيف يتصور وجود خارج الزمان و المكان. قلت له إن العقل البشري يستحيل أن يتجاوز نطاقي الزمان و المكان في عمليات تفكيره، لأن ذلك خارج نطاق مجاله و الله أزلي الوجود لا أول لبدايته و لا آخر لوجوده فهو سرمدي .أما هل يمكن للعقل البشري المحدود أن يتصور السرمدية و الأزلية تماما فهذا مستحيل ، و لكنه يستطيع أن يدرك حقيقة بسيطة هي أن الخالق البارئ لا بد أن يكون مختلفا تماما عن خلقه ،في اتجاه أسمى مقاما و أبعد تنزيها، إذ ليس كمثله شيء. فنحن نؤمن بوجود خالق لهذا الكون ، لأنه طبقا لمقتضيات كل العلوم العقلية و جميع أنواع المنطق المعقولة لا يمكن لكل هذا الإتقان و الإبداع ألا يكون وراءه خالق مبدع حكيم ، فنحن نرى ألا شيء يأتي من فراغ ، فهذا الوجود يفتقر في كل شيء إلى موجده و هو الله سبحانه و تعالى. و انتهى النقاش بيننا و هو يقول: ما تذكره أثار اهتمامي كثيرا .
0 التعليقات:
إرسال تعليق