السبت، 17 مايو 2014

الخلط بين التقدم التقاني و الرقي الإنساني. أحمد الرواس

الخلط بين التقدم التقاني و الرقي الإنساني
 هنالك خلط يقع فيه بعض الناس الذين يذوب في تصورهم ذلك الخط الفاصل ما بين التقدم العلمي، و الرقي الأخلاقي. فيحسبونهما واحدا. و يخالون الرقي الأخلاقي متلازمة للتقدم العلمي التكنولوجي. و يزيد من ترسيخ هذه المغالطة لديهم ما يلحظونه  من صرامة في الأنظمة السياسية و مصداقيتها، و ما يلحظونه من نزاهة في الأنظمة القضائية و الاجتماعية لدى الدول المتقدمة علميا و  تقنيا. و ما يعكسه ذلك من مظاهر الحياة المُغرية في الغرب. في مقابل مظاهر متفاوتة من الفساد و الظلم و الفقر في الدول المتخلفة. أو حتى بعض الدول النامية.
في غمرة  بهرجة هذه الصورة المغرية في الغرب المتقدم تكنولوجيا و تنظيميا، و في ظل سطوة الهيمنة الإعلامية الغربية الموجهة تضيع  فرصةُ النظرة المتأملة و الفاحصة عن الخط الفاصل بين التقدم العلمي و الرقي الأخلاقي. فقد أصيبت شعوب بأكملها بعمى الألون. و تداخل لديها ما هو تقدم تكنولوجي فيما هو رقي أخلاقي.

إن التقدم العلمي  التقاني، والرقي الأخلاقي و الإنساني، لا يسيران في خطين متوازيين  بالضرورة. و لا يستلزم وجود أحدهما وجود الآخر. فليس من الضروري أن يكون التقدم العلمي التكنولوجي رديفا للرقي الأخلاقي. فلكل منهما بواعثه الخاصة. فبواعث التقدم العلمي و التكنولوجي  قد تجد تربتها – أحيانا على الأقل - في الأنانية، و حب السيطرة على الآخرين، و الشره المادي الجارف.
فالتقدم التكنولوجي الهائل الذي عرفه ميدان التسلح في العالم - على سبيل المثال - جاء على خلفية الصراع الشرس بين معسكرين إجتهد كل منهما في ابتكار أنجع الوسائل الحربية لإفناء الآخر. فحب الإنسان المتفلِّت من زمام الأخلاق لا يقف أمام شهوة السيطرة و التحكم لديه أيُّ  رادع من أخلاق، أو وازع من إنسانية أو أعراف اجتماعية .  و الانسياق وراء شهوة التحكم و السيطرة  أعمت الإنسان الغربي  المتقدم تكنولوجيا  فداس على كل الاعتبارات الأخلاقية و المخاطر البيئية في مسيرته.
فالسلاح النووي الرهيب الذي أصبح هاجسه يُرهب العالم أجمع بخطر الإفناء. و أصبحت أشعة تجاربه و تسرباته تنتشر في الأجواء بشكل غير مسبوق في تاريخ البشرية و يقضي على الملايين من البشر سنويا . و يضطر كل البشر أن يعيشوا في قلق و خوف مستمرين من أن تصيب خلاياهم لوثة نووية عابرة تنهي حلمهم في الحياة. كل ذلك جاء بدافع  التغلب و السيطرة بين المعسكرين الغربي و الشرقي.
أما بواعث الرقي الأخلاقي فتجد تربتها فيما تزودت به النفس من قيم روحية، و سماحة إنسانية، و استعداد للتضحية من أجل تلك المبادئ و كل ذلك يتسم بنكران الذات، و المحبة بين البشر بدل الصراع و التكافل بدل التطاحن. و المحبة بدل الخصام و المسبة.
و هذه المبادئ لا علاقة مباشرة تربطها بالتقدم المادي التكنولوجي. بل  هذه المبادئ كلها مباعدة للنزعة المادية في الإنسان، و مقتربة من المسحة الروحية المتجذرة في صميم فطرته كإنسان.
مقياس الإنسانية  كمعيار
إذا اعتمدنا معيار قياس إنسانية الإنسان خلال القرن العشرين و بداية القرن ال21 الذي نعيشه و الذي شهد فيه التقدم التكنولوجي ما لم تحقق معشاره الإنسانية في كل رحلتها الماضية على الأرض.  و بلغت فيه رفاهية الإنسان المادية أوجها. نجد حقيقة صادمة و هي أن مؤشر إنسانية الإنسان اتجه عكسيا مع التقدم الصناعي و التكنولوجي. و كدليل على ذلك فإن عدد من  قتل و عذب من البشر في هذه الفترة باستعمال التيكنولوجيا و التقدم العلمي هو أضعاف  من قتل خلال العهود السابقة التي كانت التكنولوجيا فيها لا تزال تحبو..و بالتالي فإن هذا المؤشر يفيد أن التقدم التكنولوجي قد صاحبه - في الغرب على الأقل - تدهور أخلاقي تمثل في الاستهانة بالحياة البشرية، و الاستهتار بالكرامة الإنسانية.
صور تكنولوجية على الاستهتار بالكرامة و الحياة  البشرية.
إنطلاقا من حرص أمريكا على تجنيب جنودها و طياريها خطر الاشتباك مع الأعداء أيا كانت توصيفاتهم، و تجنبا لأي حرج يمكن أن تقع فيه الإدارة الأمريكية مع أية دولة تلقي القبض على طياريها إذا ما تمكنت دفاعاتها الأرضية من إسقاط الطائرة و أسر الطيارين الأمريكيين، قامت بصنع أنواعا من الطائرات الذاتية الحركة و التي تعمل بدون طيار .. تدعى ب Drone أخذت وزارة الدفاع الأمريكية تعتمد على أنواع من هذه الطائرات لمهاجمة من تعتبرهم أعداءها  في مختلف أرجاء العالم.
تنطلق هذه الطائرات من  القواعد العسكرية الأمريكية سواء في أمريكا أو في بعض الدول المتحالفة معها مثل أفغانستان و الباكستان و أزباكستان و غيرها
 ففي قرية إسمها كريتش Creech  في عمق صحراء نيفادا العقيمة توجد محطات القيادة الأرضية المعروفة اختصارا ب: (Ground Control Station) GCS   و في قَبو  مبنى مموه على بعد 20 ميلا من سجن محلي  توجد ردهة كبيرة بها سلسلة  غرف خاصة مزودة برفوف متعددة من الخوادم الإلكترونية Servers   و أنظمة  محطات القيادة الأرضية  GCS  . هناك يجلس الطيار ون إلى جانب مساعدي الاستشعار و مساعدين آخرين ( أنظر الصورة) يجلسون ببذلات الطيارين أمام سلسة من الشاشات ، و بيد الطيار عصا قيادة طائرة الدرونdrone تشبه عصا الألعاب الإلكترونية –كما في الصورة- يقومون معا بتنفيذ مهمات عسكرية  هجومية في عمق أراضي دول كثيرة متحالفة مثل أفغانستان و الباكستان و العراق و اليمن و غير متحالفة مثل الصومال و غيرها. 
تحدد مهمات هذه الطائرات الهجومية و التي تحمل صواريخ  حرارية متطورة طبقا للمعلومات الاستخباراتية التي تجمعها السي آي إي CIAمن عملائها على الأرض و من صور التجسس الملتقطة بواسطة الأقمار الاصطناعية و بطائرات التجسس التي تجوب الأجواء. يقوم الطيار الأمريكي الذي يبعد آلاف الأميال عن الطائرة بتوجيهها إلى موقع المهمة و إطلاق صواريخ مدمرة على الهدف. بعدها يعود بالطائرة إلى قواعدها، و كأنه يباشر لعبة إلكترونية تعتمد على الواقع الافتراضي-! دون أن يكترث لعدد الضحايا الذين سقطوا جراء هذه العملية، و دون أن يدري كم من الضحايا البرآء قد سقطوا جراء إطلاق تلك الصواريخ. و يعود الطيارون بطائراتهم فرحين بإنجاز المهمة و نجاحها بينما تصنع مآسي لا حدود لها في قرى نائية سواء في باكستان أو أفغانستان أو غيرهما. و في مقال مثير نشرته قبل عامين  الواشنطن بوست  يسلط الأضواء على الأبرياء الذين تقتلهم هذه الطائرات التي يصر كبار المسؤولين الأمريكيين على أنها طائرات دقيقة جدا. فطبقا لتحقيق قام به ما يسمى ب : مركز متابعة مناطق الصراع  و المعروف اختصارا ب CMC
 ( Conflict Monitoring Center)  فإن حوالي 2043 ضحية باكستاني قد  حصدتهم هذه الطائرات ما بين 2008 و 2012 ، أغلبيتهم الساحقة من الأبرياء- و التعبير للواشنطن بوسط.  75% منهم في عهد أوباما ، الذي جاء يبشر بفتح عهد حضاري جديد مع العالم الإسلامي.  و قالت الصحيفة إن هذه الطائرات يبدو أنها تقوم بعمليات انتقامية ، فقد تحولت إلى أدوات اغتيال . و ذكرالتقرير أن دولة الباكستان المتحالفة مع الإدارة الأمريكية و التي تضعف سيطرتها على تلك المناطق  تسارع إلى توصيف الضحايا الذين يسقطون في قرى وزيرستان الباكستانية بواسطة هذه الطائرات بأنهم مشتبه فيهم. و يقول التقرير أن حمل السلاح يعد جزء من تقاليد تلك المناطق بينما يصبح مبررا و تعلة تتعلل بها الإدارة الأمريكية لإلصاق تهمة الإرهاب بمن تشاء في هذه المناطق لتبرير فتكها بالأبرياء هناك. و سلطت الصحيفة الضوء على الطريقة التي يتم بها تجاهل الضحايا حيث تتعمد الإدارة عدم إعلان الأعداد الحقيقية للضحايا و هَوياتهم إثر الهجوم، وأن لا أحد من المسؤولين الكبار يعبأ بالأبرياء الذين تحصدهم هذه الطائرات. فيكفي أن تكون هناك شبهة عن وجود بعض العناصر الذين تصفهم الإدارة بالإرهابيين لتقوم هذه الطائرات بقصف مكان وجودهم دون أي اعتبار لمن يكونون معهم أو في الجوار.
و نتذكر كيف أن إسرائيل استخدمت هذا النوع من الطائرات في قتل 87 مدنيا بريئا في حربها القذرة على غزة سنة2008 أكثر من ثلثهم من الأطفال.إضافة إلى حوالي 1380 فلسطينيا آخرين بآلات قتل أخرى.
إن أمريكا لا تختلف في فتكها بالأبرياء عن الهمجية التي كانت سائدة في العصور الغابرة. عندما كان العالم لا يزال يحبو تطنولوجيا. بل زادت على تلك الهمجية بما هو أفظع منها. و التقدم التقني الهائل الذي تتزعمه لا يشفع لها و لا لدولة" إسرائيل"  في رفع هذه الوصمة الشنيعة التي تلطخ ماضيها القريب و حاضرها الحالي.

مؤشر ازدواجية المعايير و كشفه عن الخلفية العنصرية
مما يفضح النظرية العنصرية المرتبطة بهعود الهمجية عند الأنظمة الغربية اتصافها بازدواجية المعايير في تعاملها مع الأمم الأخرى. فهي لا تنظر للبشر بتساو في الكرامة الإنسانية و إنما تنظر بعنصرية إلى أمم الأرض.و في مناظرة بين المفكر طارق رمضان و الملحد الإنجليزي الشهير كريستوفر هيدجينز عبر هذا الأخير بواضح العبارة أنه لا يمكن أن يسوي ما بين الإنسان الأمريكي و العراقي، فبالنسبة إليه فإن الأمريكي أكثر رقيا في إنسانيته من العراقي !! فهذه النظرة العنصرية لا يخجل من البوح بها حتى من يعتبرون من المفكرين المتنورين في الغرب. فالفلسطيني مهما كان بريئا فهو عند الأنظمة الغربية أقل شأنا من الإنسان اليهودي في "إسرائيل" أو الأمريكي أو الأوروبي. و كذلك باقي الشعوب العربية و الأسيوية. فعندما يُقتل العشرات من الفلسطينيين لا تكاد تجد خبر ذلك في الصحف الأمريكية أو الأوروبية، و لا على ألسنة المسؤولين الغربيين.  أما إذا قتل جندي "إسرائيلي " فالقصة  تصبح مختلفة.
سوريا و الفضيحة الأخلاقية الكبرى للغرب
أفظع مثال للهمجية في أيامنا هو ما يقوم به النظام السوري، و العصابات الشيعية الإيرانية و اللبنانية ضد شعب محاصر و مجوع. فأكثر من 150 ألف قتيل قضوا، و ملايين المهجرين. و مئات الآلاف من المعذبين. عشرات الآلاف منهم أطفال و مع ذلك فالغرب لا يحرك ساكنا. و يسمح باستمرار هذه الهمجية التي ندر مثيلها في التاريخ البشري.و يسمح لعصابات الموت الإيرانية و العراقية و اللبنانية بممارسة ساديتها على الآمنين في مدنهم و قراهم في سوريا في واضحة النهار في تواطإ لا تخطئه العين. منتظرا تفكك هذا البلد و تدميره بالكامل خدمة لربيبته في المنطقة.
قبل يومين فقط قتلت براميل النظام المتهاطلة باستمرار  على حلب و غيرها أكثر من 30 تلميذا و هم في حجر الدراسة دون أن تحرك العواصم الأوروبية ساكنا. و كأن الذين قتلوا حشرات لا يجب أن يعبأ بها أحد. و هذا يمثل سقوطا أخلاقيا للغرب المتقدم تكنولوجيا. و الذي يضطلع بدور الراعي للديمقراطية في العالم - كما يزعم - مسخرا في ذلك الأمم المتحدة و مجلس الأمن كأدوات ضغط، أو معاول هدم لصالحه، إلا إذا كانت مصلحته التي - في أحيان كثيرة - تكون العنصرية مرتكزها تقتضي غض الطرف. أو حتى التعامي عن تلك الهمجية و الإبادة الجماعية كما يحدث في سوريا و العراق ضد السنة و ما قام به العسكر في مصر  من مجازر في واضحة النهار.
من خلال هذه الأمثلة يتبين لنا ألا تلازم ما بين التقدم التكنولوجي و الرقي الأخلاقي. لأن لكل أصله الذي يمتاح منه. و التكنولوجيا لم تكن يوما مصدر أخلاق و لا قيم. بل هي وسيلة إذا استعملها صاحب أخلاق و قيم إنسانية تحولت في يده إلى معول خير لصالح الإنسان. و إذا استعملها فاقد الأخلاق تحولت في يده وبالا على الإنسانية.
فعلينا إذن أن نبحث عن الأخلاق بعيدا عن التكنولوجيا. فأمر الأخلاق و مصدرها أسمى  من ان يكون أدوات نصنعها بأيدينا لتلبية رغباتنا المادية.


0 التعليقات:

إرسال تعليق