الخميس، 14 فبراير 2013

كيف نفهم أزمة الرهن العقاري -أحمد الرواس-



                                 كيف نفهم أزمة الرهن العقاري          التي تسببت في أكبر انهيار اقتصادي و مالي(III)

-أحمد الرواس-
 بعد أن تحدثت بشيء من التفصيل عن ركيزتين أساسيتين في الإقتصاد العالمي و الأمريكي على وجه الخصوص و هما ورقة الدولار و احتياطات الذهب،و بينت طرق التلاعب و المضاربة التي تجني منها أمريكا و إلى حد ما بعض الدول الغربية المرتبطة بها تريليونات الدولارات، و كيف أن حجم الاقتصاد الأمريكي هو أقل بكثير مما هو متداول في الأوراق التي تدار بها حركة التجارة العالمية حول العالم، و أمطت اللثام عن طبيعة الوهم الذي أصبح الاحتياط الحقيقي الذي عوض الذهب و حرص أمريكا و الدول المرتبطة بها على إبقاء فقاعته ماثلة للعيان متلألئة في الأجواء لأن انفجار تلك الفقاعة قد يؤذن بأفول نجم الاقتصاد الأمريكي. بعد كل هذا و غيره أعود لأناقش مع قرائي الأعزاء طبيعة الأزمة الاقتصادية الأخيرة و التي عرفت باسم أزمة الرهن العقاري في أمريكا و التي انهارت فيها مؤسسات عملاقة جدا مثل مؤسسسة ليمان براذرز العريقة و التي استطاعت أن تتجنب الانهيار في أشهر أزمة اقتصادية و انهيار مالي في أمريكا و هي أزمة 1929. لكنها اضمحلت في الأزمة الحالية. فما سبب هذه الأزمة و ما طبيعتها ؟
هذه الأزمة جاءت نتيجة لانفجار الفقاعة الهوائية  للرهن العقاري و كل عمليات التنويع الربوي  التي تناسلت و ساهمت في نفخ تلك الفقاعة و البلوغ بها إلى نقطة الانفجار الحتمية.
بعد انكماش الفقاعة الإلكترونية أو ما عرف بفقاعة ضوت كوم ! (the dot come bubble)  و التي كانت قد بدأت عند مطلع عام 2000 و قد أثـْـرت في ظلها عشرات الشركات العملاقة العاملة في مجال الإنترنيت ثراء فاحشا.
بعدها ظهرت في الأفق البوادر الأولى لفقاعة الرهن العقاري بعد أن أقبل الناس فرادى و زرافات على شراء المنازل التي توفرها الشركات العقارية المرتبطة ببنوك متنافسة  توفر قروضا سخية ، و أصبح حتى الأمريكيون ذوو الدخل المحدود و الغير دائم يحلمون بامتلاك منازل فارهة لهم و لأبنائهم، طالما أنهم لن يدفعوا في المقابل إلا كما كانوا يدفعون في تأجير الشقق التي يعيشون فيها.و بدأ المشترون الجدد يحلمون بالوقت التي يستوفون فيه ما عليهم دفعه من الأقساط الشهرية لتصبح المنازل في كامل ملكيتهم، و أخذوا يقدرون أنه كل قسط شهري أو سنوي يدفعونه إلا هو بمثابة تملكهم لجزء من البيت الذي به يحلمون ! و ظهر في المجتمع الأمريكي حماس منقطع النظير للإقبال على الشركات العقارية التي كانت تربطهم بالبنوك المنافسة في الإقراض بفوائدة عالية ! ثم بدا لتلك البنوك أن تستغل الظرف الذي لا يتكرر كثيرا، فلم تكتف بجني الفوائد المرتفعة التي رتبتها على أولئك الأمريكيين البسطاء بل قامت بتوليد عملية تجارية أخرى أساسها الفوائد التي تثقل كاهل المشتري، فحولت ديونهم إلى أسهم و قامت بالترويج لها ثم باعتها للمستثمرين الذين يريدون أن يأخذوا نصيبهم من تلك الضحية، - محولة المخاطر إليهم-و قد أدى هذا الإقبال إلى أن يزدهر العقار وارتفعت أثمانه في الأسواق مما قضى على تردد المترددين من الانخراط في سوق الرهن العقاري، فارتقعت الأثمان أكثر فأكثر و ازداد الرواج في ذلك القطاع بشكل غير معقول  مما حدا بالمستثمرين في تلك الديون أن يرهنوا أسهمهم لدى بنوك أخرى منافسة فحصلوا على قروض إضافية أخرى لشراء مزيد من الأسهم العقارية ! و المشكلة هي أن كثيرا من البنوك دفعها شرهها و حمى المنافسة الشرسة إلى إغراء المستثمرين بسخاء في الإقراض بلغ أحيانا إلى 50 ضعفا من قيمة الرهن الذي يحصلون عليه من المستثمرين !
ثم إن الذين أكملوا سنتهم الثالثة في دفع الأقساط بنجاح قام كثير منهم برهن جزء من البيت الذي فيه يدفعون، لدى بنوك أخرى و حصلوا في مقابل ذلك على قروض إضافية لحاجاتهم الأخرى كالعطل و السيارات الجديدة .
و دخلت شركات التأمين على الخط، فقد اصطادت المتخوفين من أي انهيار مفاجئ أو أي انفجار لتك الفقاعة الواقعة في مهب عواصف الجشع و المغامرات الطائشة،  فروجوا لعروضهم التأمينية على الأسهم، فكل من يخاف أن تنهار قيمة الأسهم في يديه عليه أن يدفع لشركات التأمين قدرا معينا من الدولارات على كل سهم، فإذا ما انهارت أسعار الأسهم أخذوا تعويضا مساويا لقيمتها في السوق قبل الانهيار !
و هكذا نرى بوضوح تام أن كل تلك العمليات التجارية و المضاربات المالية قد تولدت عن بيع الدين الأصلي الذي هو في ذمة ذلك الموظف أو العامل البسيط ثم تناسل بعد أن ولّدت منه الشركات المضاربة ديونا أخرى و باعتها في الأسواق المالية و أسواق القيم. و هكذا أصبح الكل يتوهم أن ذلك البيت الذي تورط ذلك العامل البسيط أو الموظف في شرائه هو بيته فالعامل يحلم بأنه بيته و الشركة العقارية ترى أنها تملك البيت ما دام المشتري لم يستوف بعد سداد ديونه و فوائدها المتناسلة، و البنك الذي أقرض المال يحسب أن البيت بيته ما لم يستوف كل الديون، و المستثمرون الحاملين لأسهم ذلك الدين الذي اشتروه في صورة أسهم يعتقدون أن هناك بيتا في مكان ما يدعم تلك الأسهم، و الذي أقرض المغامرين الذين رهنوا أجزاء من بيوتهم الافتراضية يعتقدون أن هناك بيتا ما يدعم تلك القروض ! و هكذا تنوعت الحيل و العلة واحدة و هي بيع الدين بالدين و هو من أشد أنواع البيوع تحريما في الإسلام لما يترتب عليه من مفاسد و ضياع للحقوق و أكل لأموال الناس بالباطل.
و لكي نفهم مدى عمق المشكلة و آثارها على الاقتصاد ليس الأمريكي وحده بل العالمي، فإن الذين اشتروا تلك الديون من المستثمرين لم يكونوا أمريكيين فحسب بل كان فيهم مآت الآلاف من المستثمرين الأجانب بمن فيهم مستثمرين عرب خصوصا الخليجيين منهم. و لذلك فعندما انفجرت فقاعة الرهن العقاري على الأرض الأمريكية و أطاح زلزالها بصروح اقتصادية عاتية فإن الاهتزازت الارتدادية قد صدعت جدران كثير من الكيانات الاقتصادية للمستثمرين الأجانب.

كيف انفجرت تلك الفقاعة؟ نرجع إلى الأصل الذي هو ذلك الموظف الأمريكي أو العامل  البسيط  الذي أغرته تلك الشركات العقارية و ما في خدمتها من بنوك، فجزء من المشكلة هو أن ذلك العامل البسيط لم يعر تلك الشروط و الوثاقات التي يتضمنها عقود الحصول على القرض العقاري،خصوصا و هي في الغالب تكتب بحروف دقيقة متزاحمة تنفر القارئ منها ! و ما كان يهم أولئك المقترضين هو أن تكون الأقساط الشهرية التي سيكون عليهم دفعها لتلك البنوك مساوية أو على الأقل ليست مرتفعة كثيرا عن تلك الأقساط التي هم يدفعونها أصلا مقابل تأجيرهم للشقق التي يسكنون فيها.لكن تلك العقود تنص على مجموعة شروط يجدر بكل من يوقع عليها أن يعرها اهتمامه و يحتاط من الوقع في شركها، فمن تلك الشروط على سبيل المثال لا الحصر أن سعر الفائدة غير ثابت بل كلما زادت البنوك المركزية من سعر الفائدة زادت  تلقائيا نسبة الفائدة التي يدفعونها على القروض التي تسلموها ! كما أن من الشروط أيضا أن أي شهر تأخر فيه المقترض عن دفعه يترتب عليه غرامة معينة و كذلك فائدة إضافية. و من الشروط أيضا أن كل ما سيدفعه المقترض في الثلاث سنوات الأولى سيعتبر تسديدا لمجموع الفوائد المترتبة على ذلك القرض-أي كأنه لن يدخل في شراء المنزل إلا بعد مضي 3 سنوات من الدفع المتواصل.

و كما هو متوقع فإن نسبة كبيرة من الأمريكيين قد تأخروا عن دفع أقساطهم الشهرية لعجزهم عن التوفيق ما بين الحاجيات الضرورية لأسرهم و بين توفير تلك الأقساط الشهرية إما لصعوبات في العمل أو الطرد من الوظيفة أو بسبب رفع سعر الفائدة من طرف بنوك الاحتياطي الأمريكية، أو لقيام البنوك المقرضة لتعديل سعر الفائدة لتلائم ارتفاع سوق العقار في السوق فكان عليهم أن يتحملوا مزيدا من الصعوبات التي أثقلت تلك البنوك كاهلهم بها دون أي اعتبار لما قد يطرأ على حياتهم و حياة أسرهم من صعوبات !و قد أسقط في أيدي كثير من المشترين و عجزوا تماما عن دفع أقساطهم واستسلموا للواقع المرير الذي هو حبس الرهن لتوقيف عداد ملتزماتهم. و بالتالي الطرد من تلك المنازل و بيعها لتسديد ديونهم التي اقترضوها، و كثرت حالات العجز تلك و شاع خبرها بين الناس ففقد المستثمرون الثقة في الأسهم التي يحملونها و التي صنعت من ديونهم ! فأغرقوا بها الأسواق في محاولة للتخلص منها، مما كانت له نتائج كارثية على قيمة العقار الذي انهارت أسعاره انهيارا مريعا، و اكتشف من اشترى تلك العقارات أنهم حتى لو باعوا تلك المنازل التي ما يزالون يسددون أقساطها العالية فإنهم لن يستطيعوا تغطية ديونهم ! بل لقد بلغ حجم الانهيار في أسعار العقار إلى ما دون 25 مما هو مترتب من الديون !و هكذا سرت موجة من الانهيارات المتتابعة في كل ما له علاقة بميدان العقار في أمريكا و إلى حد ما بعض الدول الأخرى، فأفلست إحدى أكبر الشركات الاستثمارية في مجال العقارات مثل بنك ليمان براذرز العريق-1850- الذي كان يشغل حوالي: 26 ألف عامل حول العالم بعد أن فقدت أسهمه أكثر من 90% من قيمتها، و تهاوت أكبر شركة تأمين في أمريكا و العالم و هي شركة ايه آي جي (AIG :American International Group)  و فقدت تماما قدرتها على الوفاء بالتزاماتها تجاه 64 مليون عميل تقريباً، فإذا ما ضربنا هذا العدد في 3 و هو أقل معدل لمن يعولهم أي مساهم في هذه الشركة أحسسنا بحجم الكارثة الاقتصادية التي نزلت على حوالي 200 مليون إنسان في أمريكا و أوروبا و العالم من حولهما. و لحجم هذه الكارثة فقد بادرت الحكومة الأمريكية إلى ضخ 85 مليار دولار في خزينة هذه الشركة لقاء تملك 79.9% من رأسمالها ! و تابع حريق الأزمة سيره فأتى على كثير من البنوك العملاقة مثل بنكي: مورجان ستانلي وغولدمن ساكس. كما أن الحريق أتى على أكبر مؤسستين للرهن العقاري في أميركا وهما فاني ماي وفريدي ماك الذين يتعاملان بمبلغ 6 تريليونات دولار في السوق الأمريكية و العالمية مما اضطر الخزينة الأمريكية في أول تصرف من نوعه على محاولة إنقاذهما !
و من خلال النظر إلى تسلسل الأحداث المأساوية للأكبر انهيار اقتصادي في عصرنا يلحظ المرء أن الخسائر تعد ليس بالمليارات بل بالتريليونات و هذا الأمر مخيف جدا، كما يلاحظ ظهور مؤسسات ديناصورية منافسة لم تتورط بشكل أو بآخر في تجارة الرهن العقاري قد استغلت الفرصة فقامت بابتلاع منافساتها القديمة بعد أن جادت عليها بحقنة الموت الرحيم و ذلك بقبول شراء أسهمها الكاسدة بقروش بعد أن كانت بالأمس القريب ذات وزن كبير في الأسواق العالمية ! ففي فبراير 2008 إبتلعت الحكومة البريطانية بنك نورذرن روك ( Northern Rock) و في مارس من نفس السنة فيما تبقى يعلن بنك جي بي مورجان تشيز ( JP Morgan Chase)  شراء بنك الأعمال الأمريكي بير ستيرنز بسعر يثير الشفقة ! و بمساعدة بنك الاحتياط الفدرالي. وفي أبريل قام مصرف يو بي إس السويسري UBS  بالإعلان عن خسارة تقدر ب 40 مليار دولار من أصوله، و هي أكبر  خسارة يتعرض لها أول مصرف سويسري، والمصنف الثالث أوروبياً، والأول عالمياً في مجال إدارة الثروات الخاصة.ثروات بعض المتنفذين في العالم.
  سبتمبر 2008البنك البريطاني لويد تي إس بي يشتري منافسه إتش بي أو إس المهدد بالإفلاس. وفي سبتمبر2008يشتري بنك جي بي مورغان منافسه واشنطن ميوتشوال بمساعدة السلطات الفدراليةالأمريكية  
سبتمبر 2008يجري تعويم فورتيس من قبل سلطات بلجيكا وهولندا ولوكسمبورج، وفي بريطانيا، يجري تأميم بنك برادفورد وبينجلي.
و هذا المنحى المأساوي يعزز من نظرية الخبير الاقتصادي الروسي نيكولاي ستارلينوف الذي يرى أن الأزمات الاقتصادية و المالية يقوم بها بعض كبار أباطرة المضاربة الأمريكيين من أجل الاستحواذ على مزيد من الأموال فما يباع بقروش يشترى بقروش أيضا !!
و قد قدرت مجلة الأعمال اليوم المتخصصة في مجال التداولات المالية في الأسواقBusiness Today  حجم الخسارة في عام 2008 بما يقرب من 9 تريليونات دولار مفصلة كل قطاع و حجم الخسارة التي تكبدها، و بالطبع فإن هذا الرقم الفلكي لا يشمل الركود الاقتصادي الذي تسببت فيه هذه الأزمة و الذي قد يمتد لسنوات قادمة، و لعل هذه الأزمات المتوالي ظهورها في العالم كالأزمة في إسبانيا و البرتغال و اليونان و أيرلاندا ما هي إلا شواهد على الركود الاقتصادي الذي تسببت فيه هذه الأزمة و ذهب ضحيتها مآت الملايين من البشر على الأرض.
و الآن يبدو واضحا لكل ذي نباهة أن السبب الرئيسي في هذه الأزمة و مثيلاتها هو التعامل بالربا و البيوع المحرمة، فالأزمة الأخيرة قد نشأت باعتراف الكل من بيع الديون و المتاجرة بأنواعها، و توليد أشكال عديدة من الصور الربوية  كما قد رأينا بالأدلة و البراهين الساطعة،
و قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم:"ما أحدٌ أكثَرَ مِنَ الرِّبَا إلا كانَ عَاقِبَةُ أَمرِه إلى قِلّة "رواه ابن ماجه والحاكم وقال صحيح الاسناد .
و قال تعالى : يمحق الله الربا و يربي الصدقات ، و المحق في اللغة هو المحو و الإزالة، و هذا الوصف بالضبط هو الذي يشخص حالة الانهيارات الاقتصادية الكبرى في أكبر الأسواق الربوية في العالم، فقد اختفت تريليونات الدولارات من أيدي الناس بين عشية و ضحاها و بينما هم بالأمس كانوا يملكون البلايين أصبحوا و قد تبخرت من بين أيديهم كل تلك الأموال القارونية و أصبحوا مفلسين.
في الحلقة القادمة بحول الله سأركز على الاقتصاد الإسلامي و البنوك الإسلامية الاربوية في ضوء هذه الأزمات الاقتصادية المزلزلة فانتظروها قريبا إن شاء الله.

0 التعليقات:

إرسال تعليق